السيادة الرقمية لم تعد مفهومًا نظريًا، بل أصبحت خط الدفاع الأول في مواجهة الأزمات التقنية العالمية.
ففي الأيام الأخيرة، كشفت أزمة أمازون ويب سيرفيسز (AWS) عن هشاشة النظام الرقمي العالمي، بعد انقطاع واسع شلّ آلاف المواقع والتطبيقات حول العالم.
الخلل، الذي أعاد إلى الأذهان أزمة كراود سترايك عام 2024، أظهر كيف يمكن لخلل تقني واحد أن يهدد اقتصادات دول بأكملها، ويؤكد الحاجة إلى بنية رقمية مستقلة تحافظ على السيادة الرقمية للدول ومؤسساتها.
الخلل الذي استمر ساعات معدودة كان كافيًا لإيقاف أنظمة بنكية، ومنصات تجارة إلكترونية، وخدمات حكومية، في مشهد أعاد إلى الأذهان أزمة “كراود سترايك” عام 2024، حين أصاب خلل بسيط في تحديث أمني ملايين الأجهزة، وأوقف مطارات وشركات طيران ومؤسسات مالية في عشرات الدول.
هذه الحوادث لا تُعد استثناءً، بل جرس إنذار متكرر حول هشاشة النظام الرقمي العالمي واعتماده الكامل على عدد محدود من الشركات العملاقة.
الاعتماد على الخارج يهدد السيادة الرقمية للدول
تدير “أمازون ويب سيرفيسز” ما يقارب ثلث البنية السحابية العالمية، تليها “مايكروسوفت أزور” و“جوجل كلاود”.
هذا التركّز الشديد للبيانات يجعل من البنية الرقمية كيانًا موحّدًا هشًّا، حيث يمكن لخلل تقني واحد أن يمتد أثره إلى القارات الخمس في لحظات.
فعندما تتعطل مراكز بيانات أمازون في أمريكا أو أوروبا، يتأثر مستخدم في الشرق الأوسط أو آسيا.
وعندما تُخترق شركة واحدة مثل “أوراكل”، تتسرب بيانات لمئات المؤسسات التي تعتمد على خدماتها في قطاعات التمويل، والطاقة، والاتصالات.
ما يبدو مجرد خلل تقني في شركة، هو في الحقيقة اختبار لمدى سيطرة العالم على قراراته الرقمية.
العالم اليوم يعيش داخل سحابة لا يملك مفاتيحها.
البعد السيادي للأمن الرقمي
لم تعد هذه الحوادث تقاس بحجم الخسائر الاقتصادية فقط، بل بما تكشفه من ثغرات في مفهوم السيادة الرقمية.
فالاعتماد على مزوّدين أجانب يعني أن بيانات الدول، ومؤسساتها، ومواطنيها، تمر عبر أنظمة لا تخضع لرقابتها أو تشريعاتها.
أي انقطاع، أو ثغرة، أو حتى قرار أحادي من شركة تقنية كبرى، كفيل بأن يشلّ قطاعات حيوية كاملة.
لهذا بدأت دول عديدة، من بينها الإمارات والسعودية ومصر في تبنّي مشاريع السحابة السيادية الوطنية، حيث تُخزن البيانات داخل الدولة وتُدار بكفاءات محلية.
هذه الخطوات لا تتعلق فقط بالأمن السيبراني، بل باستقلال القرار الوطني في عالم تحكمه الخوادم والبيانات.
الدرس الذي لا يُنسى
الاضطراب الذي تسببت فيه أمازون، كأزمة كراود سترايك من قبلها، ليس حادثًا منفصلًا، بل انعكاس لمعادلة عالمية خطيرة:
كلما ازدادت سرعة الرقمنة، ازداد خطر المركزية. وكلما ازداد الاعتماد على بنية أجنبية، تقلصت مساحة السيطرة المحلية.
الحل لا يكمن في الانعزال عن العالم، بل في توطين البنية التحتية الرقمية، وبناء أنظمة وطنية قادرة على العمل باستقلال في أوقات الأزمات، وضمان أمن البيانات داخل الحدود.
ما حدث مع أمازون لم يكن مجرّد انقطاع سحابي، بل تذكير بأن الأمن الرقمي أصبح جزءًا من الأمن القومي. وفي عصرٍ تحكمه الشركات التقنية أكثر من الدول، يصبح امتلاك الخوادم والتقنيات السيادية ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية.
فكما أن الدول تبني جيوشها لحماية أراضيها، ينبغي أن تبني كذلك بُناها الرقمية لحماية بياناتها.
