شهدت خريطة الاستثمار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال الأشهر الأخيرة واحدة من أكثر الفترات ديناميكية في تاريخ الاستثمار في الشركات الناشئة. فما بين أغسطس ونوفمبر 2025، تبدّلت أولويات المستثمرين، وتغيّرت القطاعات الأكثر جذبًا، وظهرت موجة جديدة من الشركات التي استطاعت الاستفادة من التحوّلات الاقتصادية والتكنولوجية التي تشهدها المنطقة.
في هذا المقال، نستعرض معًا أهم المتغيرات بين أغسطس ونوفمبر، ولماذا تحولت بعض القطاعات إلى نجوم صاعدة في المشهد الاستثماري.
أغسطس: سيطرة واضحة لقطاعات التكنولوجيا
تشير بيانات أغسطس إلى أن التكنولوجيا العقارية (PropTech) تصدرت المشهد الاستثماري بقيمة بلغت 96 مليون دولار، وهي قفزة تعكس الحاجة المتزايدة لحلول عقارية رقمية في سوق يشهد توسعًا عمرانيًا واقتصاديًا ضخمًا في الخليج ومصر.
وجاءت التكنولوجيا المالية (FinTech) في المرتبة الثانية بإجمالي 68 مليون دولار، في استمرار طبيعي لموقعها كأحد أكثر القطاعات جذبًا على مدار السنوات الأخيرة. ويعود ذلك لانتشار المحافظ الرقمية، وحلول الدفع، والخدمات المالية التي تستهدف الفئات غير المخدومة مصرفيًا.
كما حافظت تكنولوجيا البناء (ConTech) على مركز متقدم بقيمة 50 مليون دولار، مدفوعة بمشاريع البنية التحتية الكبرى وبرامج المدن الذكية، إلى جانب قطاع تكنولوجيا الغذاء (FoodTech) الذي حقق 42 مليون دولار نتيجة الابتكار في سلاسل الإمداد وإدارة المطاعم.
أما الخدمات اللوجستية فجاءت خامسًا بـ 31.5 مليون دولار، في ظل تزايد الطلب على التجارة الإلكترونية وتوسّع الشركات الإقليمية في التوصيل وإدارة الأساطيل.
من أغسطس إلى نوفمبر: كيف تغيرت خريطة الاستثمار في الشرق الأوسط؟
1. تغير في مصادر التمويل وارتفاع الاستثمارات الموجهة للسحابات السيادية والذكاء الاصطناعي
الربع الأخير من العام شهد زيادة واضحة في التمويل المخصص للحلول السيادية (Sovereign Tech)، مثل السحابات المحلية، وإدارة البيانات، وتطبيقات الأمن السيبراني. هذا التحوّل جاء نتيجة اتجاه دول الخليج نحو تعزيز سيادتها الرقمية وتقليل الاعتماد على منصات خارجية.
2. صعود الشركات المُنتجة للتكنولوجيا بدل المستهلكة لها
نوفمبر تحديدًا أظهر بروز شركات تبني تقنيات محلية، وليس مجرد نسخ نماذج عالمية. ظهرت استثمارات أقوى في:
- الذكاء الجيومكاني
- التوائم الرقمية
- حلول النقل الذكية والسيادية
- تكنولوجيا الفضاء
- أنظمة التشغيل المؤسسية المحلية
وهذه القطاعات لم تكن ضمن قائمة أغسطس، لكنها أصبحت ضمن أكثر القطاعات رواجًا بين المستثمرين لاحقًا.
3. استمرار قوة التكنولوجيا المالية ولكن بنمط مختلف
FinTech بقيت قوية، لكنها تحوّلت من “حلول الدفع” إلى:
- بنوك رقمية كاملة
- شركات قروض خالية من الضمانات
- حلول تعرّف رقمي آمن (Digital Identity)
- بنى تحتية مالية لا مركزية
إجمالًا، لم يعد الاهتمام بالمحافظ الرقمية فقط، بل بالبنية المالية الرقمية الجديدة ككل.
4. تباطؤ نسبي في PropTech مقابل نهوض قطاعات سيادية
رغم تصدر PropTech أرقام أغسطس، إلا أن نوفمبر شهد انخفاضًا نسبيًا في جاذبية هذا القطاع. السبب ليس ضعف القطاع نفسه، بل انتقال اهتمام المستثمرين إلى القطاعات المرتبطة مباشرة بالسيادة الرقمية والاستقلال التقني.
5. تسارع ضخم في الاستثمارات الحكومية المباشرة
بدءًا من سبتمبر، زادت الصناديق الحكومية وصناديق الثروات السيادية من مشاركتها في تمويل الشركات الناشئة المرتبطة بالبنية التحتية الرقمية، خاصة في السعودية والإمارات وقطر.
ما أسباب هذه التحولات؟
يمكن تلخيص التحوّلات بين أغسطس ونوفمبر في ثلاثة محاور رئيسية:
1. صعود مفهوم السيادة الرقمية
المنطقة تتجه بقوة نحو حماية بياناتها، وامتلاك بنيتها الرقمية، وتطوير تقنيات محلية. هذا غيّر أولويات المستثمرين بشكل جذري.
2. دخول لاعبين دوليين عبر تحالفات محلية
شركات مثل مايكروسوفت، AWS، وGoogle Cloud بدأت توقّع شراكات سيادية مع حكومات الشرق الأوسط، مما خلق فرصًا جديدة للشركات الناشئة التقنية.
3. استعداد المنطقة للذكاء الاصطناعي
من أغسطس إلى نوفمبر فقط، تضاعف عدد الشركات العربية التي تعمل في الذكاء الاصطناعي، خاصة في:
- الذكاء الجيومكاني
- الذكاء الصناعي للمؤسسات
- النماذج اللغوية العربية
- الأتمتة الذكية
هذا التوسع دفع المستثمرين إلى ضخ أموال أكبر في الشركات التي تستطيع إنتاج تقنيات حقيقية لا مجرد حلول استهلاكية.
خريطة الاستثمار تتحرك بسرعة… والمنطقة تدخل مرحلة جديدة
بين أغسطس ونوفمبر، تغيّر المشهد الاستثماري من التركيز على القطاعات التقليدية ذات النمو السريع إلى استثمارات أكثر نضجًا وعمقًا في التكنولوجيا السيادية، الذكاء الاصطناعي، والبنى التحتية الرقمية.
الشرق الأوسط اليوم لا يبني فقط شركات ناشئة… بل يُعيد بناء منظومة تكنولوجية عربية كاملة، مدعومة برؤية وطنية للسيادة الرقمية والاستقلال التقني.
ابدأ اليوم في دراسة الفرص، دعم الشركات التي تبني حلولًا أصلية، والانخراط في المنظومة الاستثمارية الجديدة التي تشكّل الشرق الأوسط الحديث.
المستقبل يُصنع الآن، فلا تقف على الهامش.
استثمر في بناء اقتصاد عربي يملك أدواته ويقود المرحلة القادمة.

