في إحدى قاعات المؤتمرات الاستثمارية في أوماها، جلس الحضور بانتظار كلمات الرجل الذي يُلقب بـ “حكيم أوماها”. وارن بافت، ببدلته البسيطة ونبرته الواثقة، لم يأتِ ليكشف عن أسرار غامضة أو صفقات خيالية، بل ليتحدث عن مبادئ استثمارية يصفها هو نفسه بأنها “مملة”. ومع ذلك، فإن هذه المبادئ صنعت له إمبراطورية مالية عبر شركة Berkshire Hathaway، وجعلته أحد أغنى رجال العالم بثروة تتجاوز 100 مليار دولار.
المثير أن هذه القرارات التي صمدت لعقود لا تزال صالحة اليوم، بل ربما أصبحت أكثر أهمية في زمن التكنولوجيا سريعة التغير. وبينما كان بافت في الماضي يركز على الصناعات التقليدية، فإن فلسفته يمكن أن تكون بوصلة آمنة للمستثمرين العرب الراغبين في دخول عالم التكنولوجيا دون الوقوع في فخ المضاربات العشوائية.
1. افهم اللعبة قبل أن تلعبها، كما فعل وارن بافت.
أحد أشهر اقتباسات بافت هو: “لا تستثمر في شيء لا تفهمه”. هذه القاعدة التي اتبعها في الخمسينيات والستينيات حين كان يشتري شركات تأمين وبنوك، يمكن تطبيقها اليوم على التكنولوجيا.
في عالم يشهد طفرة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، والتجارة الإلكترونية، الفهم يعني دراسة نموذج العمل، وتحليل السوق المستهدف، ومعرفة المنافسين، وفهم مصدر الربح.
على سبيل المثال، قبل أن تستثمر في شركة تكنولوجيا عربية ناشئة، اسأل نفسك: هل هذه المنصة قادرة على جذب مستخدمين مستدامين؟ هل نموذجها الربحي واضح؟
2. الصبر في عالم سريع
الأسواق التقنية تتقلب بسرعة، وأسعار الأسهم في شركات التكنولوجيا قد ترتفع أو تهبط بعشرات النسب المئوية خلال أيام. هنا يأتي درس بافت الأهم: الصبر.
هو لم يجنِ ثروته من البيع والشراء المتكرر، بل من الاحتفاظ بالاستثمارات الجيدة لفترات طويلة.
خذ مثالًا: إذا كنت قد استثمرت في شركة Amazon قبل عشر سنوات واحتفظت بالأسهم، لكانت قيمتها اليوم تضاعفت أضعافًا كثيرة، رغم كل الهبوط والصعود في الطريق.
3. أعد استثمار الأرباح في الابتكار
بافت كان يعيد استثمار أرباحه في شركات تحقق له قيمة مضافة. في قطاع التكنولوجيا، يمكن تبني نفس الفكرة بإعادة الأرباح إلى صناديق أو شركات ناشئة في مجالات مبتكرة.
مثلًا، أرباحك من الاستثمار في شركة برمجيات تعليمية يمكن أن تعاد استثمارها في شركة ناشئة بمجال الذكاء الاصطناعي للغة العربية، ما يوسع محفظتك ويزيد فرص النمو.
4. حافظ على مرونتك المالية
بافت معروف بتجنبه المفرط للديون، لكنه أيضًا يحتفظ بسيولة نقدية كبيرة تمكنه من اقتناص الفرص عند الأزمات.
في قطاع التكنولوجيا، قد تأتي الفرص فجأة: شركة واعدة تحتاج تمويلًا سريعًا، أو تقييم منخفض لشركة كبيرة بعد أزمة مؤقتة. وجود سيولة جاهزة يعني أنك تستطيع الدخول في الوقت المناسب، بدلًا من مشاهدة الفرص تمر أمامك.
5. ابحث عن القيمة الحقيقية وراء الابتكار
ليس كل جديد قيّم. في التكنولوجيا، بعض المنتجات تثير ضجة إعلامية لكن بلا أساس تجاري قوي. بافت كان يسأل دائمًا: “هل هذه الشركة ستكون موجودة وتحقق أرباحًا بعد 10 أو 20 عامًا؟”
طبّق هذا السؤال على التكنولوجيا: هل المنصة أو التطبيق يلبي حاجة حقيقية في السوق؟ هل لديه ميزة تنافسية تمنع الآخرين من تقليده بسهولة؟
ما الذي يمكن أن نتعلمه كمستثمرين عرب؟
فلسفة وارن بافت تشجع على الاستثمار في التكنولوجيا بشرط أن يتم بعقلية استراتيجية طويلة المدى.
في العالم العربي، هناك شركات تكنولوجية ناشئة أثبتت قدرتها على التوسع والمنافسة، مثل المنصات التعليمية، وحلول الدفع الرقمية، وتطبيقات التجارة الإلكترونية. الاستثمار في هذه المجالات مع اتباع مبادئ بافت — الفهم العميق، الصبر، إعادة الاستثمار، الحفاظ على السيولة، والبحث عن القيمة، يمكن أن يصنع قصص نجاح جديدة.
اليوم، التكنولوجيا ليست مجرد قطاع، بل هي العمود الفقري لكل القطاعات الأخرى: من الصحة إلى الزراعة، ومن التعليم إلى النقل. ومع وجود طاقات شبابية مبتكرة في المنطقة، فإن الجمع بين دروس بافت والانفتاح على الاستثمار في التكنولوجيا يمكن أن يخلق موجة من الشركات العربية التي تنافس عالميًا.
في النهاية، ربما يصف البعض هذه القرارات بأنها مملة، لكن التاريخ أثبت أن القرارات المملة، عندما تُكرر بذكاء، تصنع نتائج استثنائية. والسؤال الآن: أي شركة تكنولوجية عربية ستكون “كوكاكولا” أو “آبل” القادمة بالنسبة لك؟